فصل: المقرر في علم العربية أن ‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله ‏"‏في سورة هود‏"‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌوَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ‏}‏،وقوله في ‏"‏آخر فصلت‏"‏‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْأمُ الانْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِى وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏"‏في سورة الروم‏"‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏، وقوله فيها أيضًا‏:‏ ‏{‏وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏، وقوله ‏"‏في سورة يونس‏"‏‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ‏}‏، وقوله ‏"‏في سورة الزمر‏"‏‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ‏}‏، وقوله فيها أيضًا‏:‏ ‏{‏فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وقد استثنى الله من هذه الصفات عباده المؤمنين في قوله ‏"‏في سورة هود‏"‏‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ كما تقدم إيضاحه‏.‏ وقرأ ابن ذكوان ‏"‏وناء‏"‏ كجاء، وهو بمعنى نآى‏.‏ كقولهم‏:‏ راء في رأى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا‏}‏‏.‏ ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أنه ما أعطى خلقه من العلم إلا قليلًا بالنسبة إلا علمه جل وعلا‏.‏ لأن ما أعطيه الخلق من العلم بالنسبة إلى علم الخالق قليل جدًا‏.‏

ومن الآيات التي فيها الإشارة إلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّمَا فِى الااٌّرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا‏}‏‏.‏ بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن فضله على نبيه صلى الله عليه وسلم كبير‏.‏

وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًالِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًاوَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا‏}‏ وقوله‏:‏

{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وبين تعالى في موضع آخر‏:‏ أن فضله كبير على جميع المؤمنين، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كِبِيرًا‏}‏ وبين المراد بالفضل الكبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاٌّرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الاٌّنْهَارَ خِلَلَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًاأَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا‏}‏‏.‏ بين الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة شدة عناد الكفار وتعنتهم، وكثرة اقتراحاتهم لأجل التعنت لا لطلب الحق‏.‏ فذكر أنهم قالوا له صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنهم لن يؤمنوا له ـ أي لن يصدقوه ـ حتى يفجر لهم من الأرض ينبوعًا‏.‏ وهو يفعول من نبع‏:‏ أي ماء غزير‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الاٌّرْضِ‏}‏ ‏{‏أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ‏}‏ أي بستان من نخيل وعنب‏.‏ فيفجر خلالها، أي وسطها أنهارًا من الماء، أو يسقط السماء عليهم كسفًا‏:‏ أي قطعًا كما زعم‏.‏ أي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاٌّرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَآءِ‏}‏‏.‏ أو يأتيهم بالله والملائكة قبيلًا‏:‏ أي معاينة‏.‏ قاله قتادة وابن جريج‏"‏ كقوله‏:‏ ‏{‏لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى‏}‏‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ قبيلًا‏:‏ أي كفيلًا‏.‏ من تقبله بكذا‏:‏ إذا كفله به‏.‏ والقبيل والكفيل والزعيم بمعنى واحد‏.‏ وقال الزمخشري قبيلًا بما تقول، شاهدًا بصحته‏.‏ وكون القبيل في هذه الآية بمعنى الكفيل مروي عن ابن عباس والضحاك‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏‏(‏91‏)‏‏}‏ شهيدًا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو جمع قبيلة‏.‏ أي تأتي بأصناف الملائكة‏.‏ وعلى هذا القول فهو حال من الملائكة، أو يكون له بيت من زخرف‏:‏ أي من ذهب‏:‏ ومنه قوله ‏"‏في الزخرف‏"‏‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ‏}‏ إلى قوله ‏{‏وَزُخْرُفًا‏}‏ أي ذهبًا‏.‏ أو يرقى في السماء‏:‏ أي يصعد فيه، وإنهم لن يؤمنوا لرقيه‏:‏ أي من أجل صعوده، حتى ينزل عليهم كتابًا يقرؤونه‏.‏ وهذا التعنت والعناد العظيم الذي ذكره جل وعلا عن الكفار هنا بينه في مواضع أخر‏.‏ وبين أنهم لو فعل الله ما اقترحوا ما آمنوا‏.‏ لأن من سبق عليه الشقاء لا يؤمن‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ‏}‏،وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّلِيمَ‏}‏، والآيات بمثل هذا كثيرة‏.‏

وقوله في هذه الآية ‏{‏كِتَابًا نَّقْرَءُهُ‏}‏ أي كتابًا من الله إلى كل رجل منا‏.‏

ويوضح هذا قوله تعالى ‏"‏في المدثر‏"‏‏:‏ ‏{‏بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً‏}‏ كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ‏}‏‏.‏ وقوله في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا‏}‏ أي تنزيهًا لربي جل وعلا عن كل ما لا يليق به، ويدخل فيه تنزيهه عن العجز عن فعل ما اقترحتم‏.‏ فهو قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء، وأنا بشر أتبع ما يوحيه إلى ربي‏.‏

وبين هذا المعنى في مواضع أخر‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَأحِدٌ فَسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ‏}‏‏.‏ وكقوله تعالى عن جميع الرسل‏:‏ ‏{‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ وقرأ ‏{‏تَفْجُرَ‏}‏ الأولى عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وإسكان الفاء وضم الجيم‏.‏ والباقون بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم مكسورة‏.‏ واتفق الجميع على هذا في الثانية‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ‏{‏كِسَفًا‏}‏ بفتح السين والباقون بإسكانها‏.‏ وقرأ أبو عمرو ‏{‏تُنَزِّلَ‏}‏ بإسكان النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وشد الزاي‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا‏}‏‏.‏ هذا المانع المذكور هنا عادي‏.‏ لأنه جرت عادة جميع الأمم باستغرابهم بعث الله رسلًا من البشر‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذًا لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

والدليل على أن المانع في هذه الآية عادي‏:‏ أنه تعالى صرح بمانع آخر غير هذا ‏"‏في سورة الكهف‏"‏ وهو قوله‏:‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاٌّوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا‏}‏ فهذا المانع المذكور ‏"‏في الكهف‏"‏ مانع حقيقي‏.‏ لأن من أراد الله به سنة الأولين‏:‏ من الإهلاك، أو أن يأتيه العذاب قبلًا ـ فإرادته به ذلك مانعة من خلاف المراد‏.‏ لاستحالة أن يقع خلاف مراده جل وعلا‏.‏ بخلاف المانع ‏"‏في آية بني إسرائيل‏"‏ هذه، فهو مانع عادي يصح تخلفه‏.‏ وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا ‏"‏دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَوْ كَانَ فِى الاٌّرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولًا‏}‏‏.‏ بين جل وعلا في هذه الآية‏:‏ أن الرسول يلزم أن يكون من جنس المرسل إليهم‏.‏ فلو كان مرسلًا رسولًا إلى الملائكة لنزل عليهم ملكًا مثلهم‏.‏ أي وإذا أرسل إلى البشر أرسل لهم بشرًا مثلهم‏.‏

وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ لاٌّمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَوَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاٌّسْوَاقِ‏}‏ كما تقدم إيضاحه‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاٌّرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ‏}‏‏.‏ بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن من خلق السموات والأرض مع عظمها قادر على بعث الإنسان بلا شك‏.‏ لأن من خلق الأعظم الأكبر فهو على خلق الأصغر قادر بلا شك‏.‏

وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالاٌّرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ‏}‏، أي ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَـيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَواتِ وَالاٌّرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاٌّرْضِ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَاوَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالاٌّرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلًانْعَامِكُمْ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا‏}‏ ‏.‏ بين تعالى في هذه الآية‏:‏ أن بني آدم لو كانوا يملكون خزائن رحمته ـ أي خزائن الأرزاق والنعم ـ لبخلوا بالرزق على غيرهم، ولأمسكوا عن الإعطاء‏.‏ خوفًا من الإنفاق لشدة بخلهم‏.‏

وبين أن الإنسان قتور‏:‏ أي بخيل مضيق‏.‏ من قولهم‏:‏ قتر على عياله، أي ضيق عليهم‏.‏

وبين هذا المعنى في مواضع أخر‏.‏

كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًاإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

والمقرر في علم العربية أن ‏"‏لو‏"‏ لا تدخل إلى على الأفعال‏

فيقدر لها في الآية فعل محذوف، والضمير المرفوع بعد ‏"‏لو‏"‏ أصله فاعل الفعل المحذوف‏.‏ فلما حذف الفعل فصل الضمير‏.‏ والأصل قل لو تملكون، فحذف الفعل فبقيت الواو فجعلت ضميرًا منفصلًا‏:‏ هو أنتم‏.‏ هكذا قاله غير واحد، والعلم عند الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَـاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏ ‏.‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ هذه الآيات التسع، هي‏:‏ العصا، واليد، والسنون‏.‏ والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات‏.‏

وقد بين جل وعلا هذه الآيات في مواضع أخر‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌوَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما ذكرنا‏.‏ وجعل بعضهم الجبل بدل ‏"‏السنين‏"‏ وعليه فقد بين ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ‏}‏ ونحوها من الآيات‏.‏ قوله

تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاٌّرْضِ بَصَآئِرَ‏}‏ ‏.‏ بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن فرعون عالم بأن الآيات المذكورة ما أنزلها إلا رب السموات والأرض بصائر‏:‏ أي حججًا واضحة‏.‏ وذلك يدل على أن قول فرعون ‏{‏فَمَن رَّبُّكُمَا يا مُوسَى‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ كل ذلك منه تجاهل عارف‏.‏

وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى مبينًا سبب جحوده لما علمه ‏"‏في سورة النمل‏"‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِى تِسْعِ ءَايَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبِا لْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ‏}‏ ‏.‏ بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أنه أنزل هذا القرآن بالحق‏:‏ أي متلبسًا به متضمنًا له‏.‏ فكل ما فيه حق‏.‏ فأخباره صدق، وأحكامه عدل‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا‏}‏ وكيف لا? وقد أنزله جل وعلا بعلمه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَبِالْحَقِّ نَزَلَ‏}‏ يدل على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله‏.‏

لأن الرسول المؤتمن على إنزاله قوي لا يغلب عليه حتى يغير فيه، أمين لا يغير ولا يبدل‏.‏ كما أشار إلى هذا بقوله‏:‏ ‏{‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاٌّمِينُ عَلَى قَلْبِكَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏، وقوله‏:‏ في هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَقَوْلُ رَسُولٍ‏}‏ أي لتبليغه عن ربه‏.‏ بدلالة لفظ الرسول لأنه يدل على أنه مرسل به‏.‏

‏{‏وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَـاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاٌّذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلاٌّذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا * قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاٌّسْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ‏}‏ ‏.‏ قرأ هذا الحرف عامة القرآء ‏"‏فَرَقْنَاهُ‏"‏ بالتخفيف‏:‏ أي بيناه وأوضحناه، وفصلناه وفرقنا فيه بين الحق والباطل‏.‏ وقرأ بعض الصحابة ‏{‏فَرَقْنَاهُ‏}‏ بالتشديد‏:‏ أي أنزلناه مفرقًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة‏.‏ ومن إطلاق فرق بمعنى بين وفصل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏‏.‏

وقد بين جل وعلا أنه بين هذا القرآن لنبيه ليقرأه على الناس على مكث، أي مهل وتؤدة وتثبت، وذلك يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يقرأ إلا كذلك‏.‏ وقد أمر تعالى بما يدل على ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا‏}‏ ويدل لذلك أيضًا قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُرْءانًا‏}‏ منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده‏.‏ على حد قوله في الخلاصة‏:‏ فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاٌّسْمَآءَ‏}‏ ‏.‏ أمر الله جل وعلا عباده في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن يدعوه بما شاؤوا من أسمائه، إن شاؤوا? قالوا‏:‏ يا الله، وإن شاؤوا قالوا‏:‏ يا رحمن، إلى غير ذلك من أسمائه جل وعلا‏.‏

وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏}‏‏.‏

وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع‏:‏ أنهم تجاهلوا اسم الرحمن في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً‏}‏‏.‏

وبين لهم بعض أفعال الرحمن جل وعلا في قوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ‏}‏ ولذا قال بعض العلماء‏:‏ إن قوله ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ‏}‏ جواب لقولهم‏:‏ ‏{‏قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ‏}‏‏.‏ وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح ‏"‏في سورة الفرقان‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً‏}‏ ‏.‏ أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة الناس على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ لأن أمر القدوة أمر لاتباعه كما قدمنا ـ أن يقولوا‏:‏ ‏"‏الحمد لله‏"‏ أي كل ثناء جميل لائق بكماله وجلاله، ثابت له، مبينًا أنه منزه عن الأولاد والشركاء والعزة بالأولياء، سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوًا كبيرًا‏.‏

فبين تنزهه عن الولد والصاحبة في مواضع كثيرة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ إلى آخر السورة، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً‏}‏، والآيات بمثل ذلك كثيرة‏.‏

وبين في مواضع أخر‏:‏ أنه لا شريك له في ملكه، أي ولا في عبادته‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، والآيات بمثل ذلك كثيرة‏.‏ ومعنى قوله في هذه الآية ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ‏}‏ يعني أنه لا يذل فيحتاج إلى ولي يعزبه‏.‏ لأنه هو العزيز القهار، الذي كل شيء تحت قهره وقدرته، كما بينه في مواضع كثيرة كقوله‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ والعزيز‏:‏ الغالب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ والآيات بمثل ذلك كثيرة‏.‏ وقوله ‏{‏وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً‏}‏ أي عظمه تعظيمًا شديدًا‏.‏ ويظهر تعظيم الله في شدة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه، والمسارعة إلى كل ما يرضيه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ‏}‏ ونحوها من الآيات، والعلم عند الله تعالى‏.‏

وروى ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة عن قتادة أنه قال‏:‏

ذكر لنا أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الصغير والكبير من أهله هذه الآية ‏{‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ‏}‏‏.‏ وقال ابن كثير‏:‏ قلت وقد جاء في حديث‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الآية آية العز‏.‏ وفي بعض الآثار‏:‏ أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة‏.‏ والله أعلم‏.‏ ثم ذكر حديثًا عن أبي يعلى من حديث أبي هريرة مقتضاه‏:‏ أن قراءة هذه الآية تذهب السقم والضر، ثم قال‏:‏ إسناده ضعيف، وفي متنه نكارة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تم بحمد الله تفسير سورة بني إسرائيل‏.‏

وتم بحمد الله إكمال المجلد الثالث من أضواء البيان ولا تنسونا من خالص الدعاء‏.‏

8